في زمن الكوارث المناخية.. من يتحمل تكلفة التكيّف؟
في زمن الكوارث المناخية.. من يتحمل تكلفة التكيّف؟
مع تصاعد الكوارث المناخية واشتداد آثارها على الدول الأكثر هشاشة، يتزايد الحديث عن ضرورة توفير تمويل عادل ومُلزم لمواجهة هذه التحديات، باعتبارها تهديدًا مباشرًا للحقوق الأساسية للإنسان، وعلى رأسها الحق في الحياة، والصحة، والسكن، والمياه، والغذاء.
وجاءت دعوة حديثة أطلقتها لورانس توبيانا، إحدى مهندسي اتفاقية باريس والرئيسة التنفيذية لمؤسسة المناخ الأوروبية، في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" البريطانية نُشرت، اليوم الخميس، إلى ضرورة فرض ضرائب جديدة على القطاعات الملوِّثة كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة، بهدف توفير موارد مالية للعمل المناخي.
وتشغل توبيانا أيضًا منصب الرئيس المشارك لفريق عمل الضرائب التضامنية العالمية، وهي مبادرة دولية تسعى لإيجاد مصادر تمويل جديدة من خلال فرض ضرائب على الأنشطة المرتفعة الانبعاثات، مثل السفر الجوي واستخراج الوقود الأحفوري.
وترى أن تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة أصبحت تستهلك كميات هائلة من الكهرباء، مشيرة إلى أن تعدين عملة البيتكوين وحدها يستهلك سنويًا طاقة تعادل ما تستهلكه بولندا بأكملها.
وتحذر توبيانا من أن هذه التكنولوجيات تعمل في بيئة تنظيمية شبه معدومة، لا سيما العملات المشفرة التي تُشبه في بعض الأحيان، حسب تعبيرها، "الجريمة المنظمة".
وقد أبدى بعض محافظي البنوك المركزية اهتمامًا بالملف، لكن تظل هناك مقاومة من دول مثل الولايات المتحدة التي يُعتبر رئيسها دونالد ترامب من أبرز الداعمين لهذه التكنولوجيا.
اتفاق بين عدد من الدول
من بين المبادرات التي بدأت ترى النور، نجح الفريق العامل الذي ترأسه توبيانا في التوصل إلى اتفاق بين عدد من الدول لفرض رسوم جديدة على تذاكر الطيران من الدرجة الأولى ورجال الأعمال والطائرات الخاصة.
وشملت الدول الموقعة فرنسا، وإسبانيا، وكينيا، وبربادوس، والصومال، وبنين، وسيراليون، وأنتيغوا وبربودا، ووفقًا لتقديرات الخبراء، فإن تعميم هذه الضرائب قد يدر نحو 147 مليار يورو سنويًا في حال انضمام الاقتصادات الكبرى.
وتوضح توبيانا أن ضريبة الطيران "ليست معقدة"، ويمكن للدول فرضها دون الحاجة إلى توافق دولي، باعتبارها قرارًا سياديًا، وتشير إلى مفارقة غريبة في العدالة الضريبية، قائلة: "عندما تمتلك سيارة، تدفع ضريبة.. لكن عندما تسافر جوًا، لا تدفع شيئًا".
وتتجه الأنظار الآن إلى إمكانية فرض ضرائب على تقنيات الذكاء الاصطناعي، رغم تعقيد المسألة نظراً لاحتمال لجوء الشركات إلى نقل مراكز بياناتها لتجنب الضرائب، ورغم التحديات، ترى توبيانا أن هذه الخطوات تمثل بداية جادة في طريق بناء نظام تمويلي منصف ومتماسك يدعم البلدان الأكثر تضررًا من تغير المناخ.
لكن على الرغم من أهمية هذه المبادرات، فإنها لا تكفي لسد الفجوة الكبيرة في تمويل التكيّف المناخي، ففي تقرير نشرته وكالة "رويترز" في 3 يوليو، أكدت أن التكيف مع آثار تغير المناخ لم يعد خيارًا مؤجلاً، بل بات ضرورة اقتصادية وإنسانية.
خسائر تصل لـ1.2 تريليون دولار
حذّر التقرير من أن أكبر الشركات العالمية قد تواجه خسائر سنوية تصل إلى 1.2 تريليون دولار بحلول عام 2050 في حال عدم اتخاذ تدابير فورية للتكيّف، مثل بناء جدران بحرية، دفن خطوط الكهرباء لحمايتها من الحرائق، واستعادة الأراضي الرطبة.
ورغم هذه المخاطر، لا تزال برامج التكيّف تتلقى أقل من 10% من إجمالي تمويل المناخ العالمي، ويغطي هذا التمويل الحالي فقط سدس التكاليف المتوقعة لمخاطر المناخ بحلول عام 2030، بحسب ما نقلته "رويترز" عن منظمة "سيريس" التي تعمل مع مستثمرين لتحديد فرص التكيف.
وتبرز فرص كبيرة في سوق التكيّف، حيث تشير التحليلات إلى أن كل دولار يُستثمر في هذا المجال يمكن أن يُحقق ما بين دولارين إلى 43 دولارًا من العوائد. وقد بدأت شركات مالية كبرى مثل "بريكِنريدج كابيتال أدفايزرز" و"إمباكس أسيت انجمنت" بتطوير أدوات تقييم استباقية للمخاطر المناخية تعتمد على بيانات استشرافية بدلاً من البيانات التاريخية، ما يسمح بتحديد أكثر دقة لنقاط الضعف في سلاسل التوريد والمجتمعات المعرضة للخطر.
على سبيل المثال، تسبب إعصار هيلين في ولاية كارولينا الشمالية في فيضانات أدت إلى توقف منجم للكوارتز عالي النقاء، وهو مصدر لـ80% من المواد المستخدمة في صناعة أشباه الموصلات، هذا التوقف أثّر على سلاسل التوريد العالمية، ما دفع شركات الاستثمار إلى إعادة تقييم المخاطر المناخية كمؤثر حاسم في عملياتها.
آثار التغير المناخي
وفي حين تتحمل الدول النامية العبء الأكبر من آثار التغير المناخي، تظل المفاوضات حول تمويل هذه الجهود متعثرة، فقد كشفت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن مؤتمر المناخ التاسع والعشرين (COP29) المقرر عقده في نوفمبر المقبل في أذربيجان، يواجه صعوبات في التوصل إلى اتفاق بشأن "الهدف الكمي الجماعي الجديد" (NCQG)، الذي يُفترض أن يحل محل التعهد السابق بجمع 100 مليار دولار سنويًا.
هذا الهدف الجديد من المفترض أن يبدأ تطبيقه في عام 2025، لكنه يواجه تعثرًا بسبب الخلافات بين الدول حول تحديد حجم التمويل، وهوية المانحين والمستفيدين، ورغم أن الدول المتقدمة تجاوزت هذا الهدف القديم عام 2022 حين جمعت 116 مليار دولار، فإن التأخير لعامين أضرّ بثقة الدول النامية التي ترى أن ما يُقدّم لها ليس منّة، بل هو حق وعدالة تاريخية.
وترى "لوموند" أن إعادة بناء الثقة بين الشمال والجنوب يمر حتمًا عبر التزامات مالية واضحة وملزمة، وإلا فإن احتمالية تقديم خطط مناخية طموحة من جانب الدول النامية في مؤتمر COP30 في البرازيل ستكون ضعيفة، وكما لخص أحد المراقبين الدوليين الوضع: "المال أو المواجهة".
ومن جهتها، قدمت مجلة "الإيكونوميست" تحليلًا موسعًا حول معضلة التمويل، مشيرة إلى أن المشكلة ليست في غياب الأدوات المالية، بل في غياب الإرادة السياسية والتنفيذ.
وتشير إلى أن تمويل تحوّل العالم الفقير إلى الاقتصاد الأخضر لا يتطلب إعادة اختراع العجلة، بل تفعيل ما هو قائم من آليات تمويل ودعم.
احتياجات تمويل المناخ
يقسّم تقرير "الإيكونوميست" احتياجات تمويل المناخ في العالم النامي إلى ثلاث مجموعات: تحفيز الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتعويض الدول الفقيرة عن الحفاظ على الغابات أو إغلاق محطات الفحم، وتمويل جهود التكيّف، وتؤكد المجلة أن بند التكيّف هو الأكثر غموضًا وتفاوتًا من حيث الفهم والتطبيق.
وتقدر لجنة تحولات الطاقة (ETC) أن حجم الاستثمارات السنوية المطلوبة (باستثناء الصين) يجب أن يبلغ 900 مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف المعدلات الحالية، وتدعو المجلة إلى رفع الإعانات الخضراء التي تقدمها بنوك التنمية من 50 إلى 144 مليار دولار سنويًا، مع ضرورة إشراك القطاع الخاص عبر ضمانات واستثمارات مرنة.
وفي ضوء هذه التحديات، يبدو واضحًا أن قضية تمويل التكيّف المناخي هي اختبار حقيقي لمدى التزام العالم بمبادئ العدالة المناخية، فهي لا تتعلق فقط بالأرقام أو السياسات، بل بحياة ملايين البشر الذين يواجهون أخطارًا متزايدة رغم أنهم الأقل مساهمة في الكارثة.